وقت الرئيس…..!!
سعد الأوسي
كانت المسؤولية الاولى في ادارة الدولة منذ الازل وماتزال، مزدحمة الوقت غارقة حتى اذنيها بالمهام والمسؤوليات والعمل المتواصل الذي لا يخضع لاي معيار مماثل في اية مسؤولية او مهنة اخرى، فالرئيس او الملك او الزعيم او السلطان او الامير او رئيس الوزراء على اختلاف المسميات وتشابه الادوار في قيادة شعوبهم وبلدانهم وحمل عبء موقع الادارة الاول المثقل بالامانة العظيمة، يعاني من شحة وقته قياساً الى كم مسؤولياته ومهامه الكثيرة جدا، والتي تتشعب وتتفرع فتبدو امام عينيه كآلاف الطرق والمتاهات المحتوم عليه سبرها ومعرفة مساراتها وابعادها بدقة واناة واتخاذ القرارات المناسبة فيها، مع اقل قدر ممكن من احتمالات الخطأ، لان الخطأ في موقعه قد يتسبب بضياع الارواح والثروات والاوطان وهدر الحاضر والمستقبل.
ولاننا شعوب ابوية النزعة نرى في رأس الدولة مرجعنا وقبلة همومنا ومشاكلنا ومعاناتنا وطموحاتنا وامالنا واحلامنا ومطالبنا المشروعة وغير المشروعة، لذلك نتوجه جميعاً اليه ونتعلق برقبته لحل ومعالجة اية مشكلة ومعضلة وروتين سقيم و فساد مقيم يصادفنا في التعامل مع مؤسسات الدولة ومسؤوليها، لاننا مانزال بعيدين جداً عن نظام دولة المؤسسات المسؤولة التي تمارس واجباتها على وفق سياقات دقيقة مضبوطة شفافة عادلة وحيادية تسعى لتسهيل الحياة وليس لتعقيدها وعرقلتها بالبيروقراطية و الفساد والمحسوبية وشتى عقد الادارة المقيتة التي تسمم حياة الناس وتنفّرهم وتجبرهم على البحث عن بدائل عيش في المنافي والغربات البعيدة.
من هنا يجد رئيس الحكومة في العراق نفسه امام محنة كونه مسؤولاً مسؤولية شخصية امام ابناء شعبه فرداً فردا وليس مسؤولية جمعية كما ينبغي ان تكون، لاننا نريد منه حل مشاكلنا جميعاً صغيرها وكبيرها بنفسه و بمتابعته المباشرة، حتى ونحن نعلم ان ذلك مستحيل لا يستطيعه احد من بني البشر ولو كان من اصحاب الخوارق.
لذلك تبدو مهنة الرئيس في العراق ورطة اكثر من كونها سلطة وابتلاءً اكثر من كونها تكليفاً او تشريفاً.
وقد حاولت لسنوات طويلة خلت ان افهم نوع و نمط و كنه هذه العلاقة الحسّاسة الشائكة بيننا كشعب عاطفي متطرف الولاء والعداء وبين الانظمة والرئاسات التي تتالت على حكم البلد، وعبثاً اهتديت الى جواب يشفي صدر السؤال، فنحن نحبهم ونثور عليهم ونخلعهم ، ونكرههم ونهتف بحياتهم ونفديهم بالروح والدم، بحيث
(حيّرنا اهل النجم والياخذون الفال)
لكننا في كل هذه الاحوال والتناقضات وعلى اختلاف نوع السلطة التي تحكمنا ديكتاتورية كانت او ديمقراطية ظالمة او عادلة فاسدة او مُصلحة، نبقى مصرّين على العلاقة المباشرة جدا مع الرئيس سواء احببناه ام كرهناه، ولا ندّخر وسيلة للوصول اليه ووضع طلباتنا ومظالمنا امامه لانه وحده القادر على حلها بسلطته السحرية القادرة، مع ان الكثير من هذه المطالب والمظالم غير مشروعة وغير قانونية وماانزل الله بها من سلطان، الا انني رغم ذلك انحاز بيقين راسخ الى ضرورة ان تبقى الابواب بيننا وبينه مفتوحة والجدران شفافة كي يبقى موصولا ومتواصلا مع شعبه، مطلّعا على شؤونه قريبا من نبضه، غير معزول بالقصور العالية والحاشية المنافقة والتقارير الكاذبة والمستشارين الاغبياء عديمي النفع.
وقد قيّض لي ان اكون قريباً لعدد من الرئاسات المتعاقبة على قيادة البلد في العقدين السياسيين الاخيرين، بحكم عملي الاعلامي او منصبي الاداري او علاقتي الاخوية المباشرة التي كانت قبل تسنم الرئيس منصبه. وربما كانت علاقتي بدولة الرئيس محمد شياع السوداني ابرز نموذج على ذلك، فقد ارتبطنا لسنوات خلت بصداقة واخاء ومحبة متينة كان ثالثنا فيها اخانا العزيز الراحل ابا غيث رحمه الله الذي ماتزال دمعتنا على فقده ساخنة رطبة وذكراه في قلوبنا راسخة لاتزول.
والحق اقول ان الرئيس السوداني بقي هوَ هوَ كما عرفته قبل الرئاسة وبعدها، وفياً صادقاً متواضعاً عادلاً لاتأخذه في الحق لومة لائم، محبّا لشعبه دؤوباً مجتهداً يصل الليل بالنهار في عمله ولا يتوانى عن فعل الخير وكل ساعاته رحمانية.
وكان الخط الساخن بيني وبينه باب الخير والعدالة والحق الذي انقل اليه عبره الكثير مما يدور في الشارع العراقي و يتداوله الناس من هموم ومعاناة. ولم تجد اي شكوى او طلب او مظلمة او حالة فساد وضعتها امام انظار دولته الا كل اهتمامه وعنايته واستجابته، ويفاجئني دائما بردوده السريعة عليها فأسأل نفسي : كيف يستطيع هذا الرجل وهو رئيس السلطة القيّم على كل امورها، وقتاً لقراءة عاجلاً للقضايا والطلبات والشكاوى التي ارفعها لدولته ويتخذ قراراً بها ويجيبني عليها خلال ساعة او نصفها او ربعها، ليعين محتاجا وينصف مظلوماً ويحاسب فاسداً او مرتشيا !!؟؟
انها الهمة العالية والمسؤولية الوطنية والاخلاقية والانسانية التي يجب ان تكون تاج كل من يتسنم هذا المنصب ليحظى برضا الله والشعب والوطن، وليبقى ذكره عطِراً خالداً في حضوره وبعد مغادرته المنصب.
وامثلتي وقصصي مع الرئيس السوداني في هذا الصدد كثيرة كان آخرها الخطاب الذي ارسله الشاعر الكبير جواد الحطاب عن احوال صحية ومعاشية شتى لاحد الادباء العراقيين، لكن ذلك الخطاب تاه بين اروقة الكم الهائل من المعاملات والاوراق والمخاطبات الرسمية المرفوعة للرئيس ، وهو امر معروف في دوائر الرئاسة باختلاف عهودها وانظمتها.
وظل الحطاب ينتظر الرد و (الطارش) الذي يبشره بوصول خطابه واطلاع الرئيس عليه طوال شهرين حتى كاد ان ييأس.
و تعليقا على مقالي المنشور قبل ايام (السوداني قيادة عاقلة)، كتب الحطاب في جروب العراق بيتنا الذي اسسته قبل اعوام ويضم مئات الشخصيات المهمة سياسيين واعلاميين وكتاباً ومفكرين ، عاتباً على القيادة العاقلة لانها لم تقرأ خطابه ومناشدته،
فقلت له مازحا : انطيني (عطوة) نص ساعة وانا احلّ الامر .
فقال: خذ ساعة بل ساعات
وعلى الفور ارسلت رسالة لدولة الرئيس محمد السوداني عبر رقمه الخاص اسأله واناشده ، ولم يستغرق نصف الساعة التي طلبتها، فقد كان الرئيس اكرم مني كعادته وحل الامر في دقائق معدودات فحسب، ثم كتب لصاحب الحالة التي ناشدناه عونها انا والحطاب رسالة قال له فيها:
(عرفت انك منذ ستة أشهر طريح الفراش وبلا راتب، وعرفت ان الديون قد تراكمت عليك، هذا مبلغ لتمشية امورك، وبالنسبة لصحتك سنسير معك خطوة خطوة، ونحن من يتبنى علاجك، في مستشفيات الاختصاص العيون و الظهر والاطراف).
كان فرح الشاعر الكبير جواد الحطاب باستجابة دولة الرئيس السريعة للطلب قد اشعل حماسه ليطلب ذات الاهتمام والعناية لحالة الشاعر وحيد ابو الجول المصاب بمرض مناعي نادر يودي بصحته وحياته ان لم يحظ بالرعاية الصحية اللازمة، و تمنى الحطاب ان يستثمر ذات الساعة الرحمانية الحاضرة عند رئيس الوزراء لمساعدة ابو الجول،
فكتبت من فوري لدولة الرئيس في هذا، وفي غضون دقائق اجابني:
(كل ساعاتنا رحمانية باذن الله،
ارسل لي عنوان ابو الجول او رقم هاتفه وسنتولى حالته الصحية وعلاجه وكذلك حالته المعاشية).
شعرت وانا اقرأ رد الرئيس السوداني بمزيج من زهو وفخر وطمأنينة ، كان زهوي ان اخي وصاحبي لم يخذل رهاني على محبته ولم يخيب لي املا، وفخري ان رئيس وزراء العراق رجل مسؤول بحق يحب شعبه ويلبي مطالبه ويغيث حاجته، و طمأنينتي ان مستقبل وطني وابنائي بخير مادام فيه قادة كمحمد شياع السوداني قادرين على ان ينهضوا به من ركام السنوات العجاف ويعيدون بهاءه ورونقه ومكانته وهيبته، وان غدنا سيكون اجمل من امسنا ويومنا، وكأنني اراه رؤية عين لا خيال متمن.
اترك تعليقاً