عن لؤي حمزة عباس وأمكنته
د.ضياء الثامري تقدم رواية (مدينة الصور) فرصة متميزة للتأمل، تأمل الصورة بوصفها حياة، تأمل السرد بوصفه صورة طبق الأصل لأخرى مقموعة في دواخلنا، تأمل السيرة الراكزة بين السرد والصورة.لا أنوي تقديم تصور نقدي عن رواية لؤي ولكني أحاول تلمس حدود الصورة، وحدود السرد، وحدود السيرة، أحاول الدخول إلى العالم الواحد الذي تذهب إليه، العالم المنكتب فيها، عالم الإنسان والسارد. هنالك إشارات كثيرة في عالم المعرفة والإبداع تؤكد أن الفن العظيم إنما يكون عند الذين تسكنهم أماكنهم، عند الذين يتميزون عن غيرهم بالمكان، مثلما يتميز بهم. قائمة طويلة من الأسماء في هذا المجال، نجيب محفوظ، السياب، الطيب صالح، إبراهيم الكوني، محمد خضير، وتمثل فيروز أيقونة المكان الذي لم يغادرها ولم تغادره.هؤلاء الذين يحملون أمكنتهم معهم في حقائب الذاكرة والوعي يتميزون عن غيرهم بصدق نياتهم تجاه تلك الأمكنة، لذلك فإنها حاضرة – دائما – في تفكيرهم، وفي كتاباتهم وفي حياتهم. المكان حياة في الماضي والحاضر،والمكان صورة وسرد مؤجل على الدوام، المكان هو الصورة الأصل،الصورة التي لا تكذب عندما تعلن عن نفسها، أو تعلن عن حاملها.
عالم مؤثث بالعذابات يبدو لي أن هذه المقدمة هي الباب الواسع الذي يأخذنا إلى عالم لؤي حمزة عباس، ذلك العالم المؤثث بالعذابات، والاشتغالات ومرارة الذاكرة وبهجتها، عالم ينتمي إلى نفسه وإلى مكانه انتماء حقيقيا،عالم يختزن بداخله رائحة الشط وصوت قطارات المعقل المعبأة بجثث الموتى وهم يرحلون إلى أماكنهم، يقول محمد خضير :(إنك وأنت تكتب عن مدينة تعرفها أشد المعرفة، تبتعد كثيرا عنها حتى لا تعود إلا صورة أو ذكرى، أو نغما بعيدا تنسجم فيه الألحان كلها انسجاما خفياً)،المكان هو الآلة والقوس والوتر كما يقول لؤي، إنه الخبرة مجسدة ومرئية، والتجربة حاضرة ومضاءة. ذات يوم في عام من أعوام الجوع والجحيم، سألت صديقي (لؤي) ألا تفكر بالخروج، أجاب لا، وسكت بعدها تشعب بنا الحديث ولم يعقب. في ذلك الوقت منتسعينياتالقرنالعشرين كانت الأوساط العلمية والثقافية والأكاديمية – خاصة – مسكونة بحمى الهجرة، أو الهروب إلى يوتوبيات حقيقية بالقياس إلى المكان الجحيم الذي نسكنه، كانت حمى الابتعاد عن هذا المكان تجلد أبناء البلد الذي أطبق عليه الظلام، وكنتَ في حينها عندما تسأل أحدهم عن سبب هجرته يجيبك (لعلي آتيكم بقبس)، ولكن لماذا لم يذهب صديقي ليأتي بما يصطلي به؟ اليوم استعدت حادثة لقائي بصديقي لؤي، ولكن هذه الاستعادة كانت بعد عقدين،بعد أن قرأت كتبه خلال تلك المدة، فعرفت أنه لم يكن ليرحل عن مكانه في يوم من الأيام لسبب وجيه هو أنه مسكون بهذا المكان وعياً، فصار السرد مكانه الذي يطرد الظلمة عنه، صار حيلته لكي يتغلب على بها على الجحيم، يقول لؤي؛(أن نكتب عن المكان يعني أن نتذكره، أن نمنح تذكرنا شكلا، هذا الشكل الذي نختبر فاعليته كلما بعدت المسافة بين الكاتب والمكان،لتعيش الكتابة بعدا نزاعيا مع المكان وهي تسعى لاكتشافه وتعمل على اختراق طبقاته المعلومة منها والمجهولة، المرئية والمتخيلة، إنها تقيده في زمان الحلم والذاكرة فيما يواصل هو حركته غير المرئية فيعدد معانيه ويراكم طبقاته ليعدَّ صورة رمزية مفعمة بالمعاني والدلالات، المكان حلم المعنى، متاهته والكتابة لغزه وخريطته). هنالك ميل يبدأ بقوة من سارتر ويستمر في أعمال منظرين مختلفين من أمثال فوكو وهايدن وايت وغيرهم كثير، ولؤي واحد منهم، هذا الميل هو التفكير في السرد بوصفه حيلة خيالية للتغلب على فوضى الحياة، فإننا لا يمكن أن نعيش حياتنا مالم نمنحها معنى علىشكلقصص بأثر رجعي، هذه حيلة تمكننا من العيش لذلك لم يفتش صديقي عن مكان آخر غير مكانه الواقع والحلم. إن السرد عند لؤي ليس خيانة للحياة، إنه الحياة نفسها لذلك فإن صوره لا تكذب أبدا، السرد هو إستراتيجية دفاعية خيالية لإقناع أنفسنا بأن للحياة معنى، أو بعبارة أخرى يمكن أن نقوم بتنظيم الحياة ونعيشها بشكل سردي، وهذا ممكن جدا بفعل تأصل الزمان والمكان فينا.
المسكون بالسرد هكذا عرفته مسكونا بالسرد والمكان،عرفته وفيا ومرتبا في سرده ولذلك هويؤثث كل شيء بالترتيب الذي يبهر مثلما يؤثث مكانه بلغته الأنيقة جدا، إنه ينتمي لأشيائه بدقة وانتظام ومثابرة وأناقة مفرطة،إنه يعيش حياته مثل عمل سردي محكم لا زوائد فيه. يبتكر لؤي في سرده تياراً خاصاً من تيارات الوعي، فهو متدفق وغزير،وفي الوقت نفسه هو الأكثر قربا إلى روح الحياة، فقد أغمض عينيه عن الهذيانات التي قد تطيح بهكذا نوع من الكتابة، وذهب ليؤسس عالمه في كل ماهو إنساني ودال ذلك بعد أن تملكه إحساس كثيف بأن يده التي أفلتت قلبه في أزقة المعقل ودروبها لن تستعيده إلى الأبد. على حافة حرب الثمانينيات قبل ما يقارب ربع قرن من الزمان العراقي– يقول لؤي السارد- ولد جيل من الكتاب كانوا مشدودين لطموحهم في ابتكار عوالمهم وسط روائح الدم والرماد، وقتها لم يكن الوطن وطناً، كان ثكنة رمل تسورها أناشيد الحرب في غيب الصحراء، لم يكونوا في حلم الكتابة ليهربوا من وطنهم وهو لا يبدو في ربيع القتل وطناً، بل كانوا يبحثون عما يمنح الحياة، هذه الكلمة المستحيلة، إنهم مشدودون لطموحهم في ابتكار معانيهم حيث يتحول الدمع في خاتمة الحكاية إلى حجارة وتتسع الكلمة لتغدو وطناً. أعود من حيث إبتدأت وأتساءل لماذا أبحث- أنا الذي لم أسكن المعقل – عن زمني الضائع، عن صورة أبي في شبابه، أو عن صورتي أنا بين الأطفال الذين يسكنون صورة غلاف مدينة الصور، لماذا أتوهم وجود أحد ما أعرفه مع أن الصورة لم يكن فيها من هوكذلك. أتساءل لماذا تسكنني الصورة هل لأنها صورة لمكان يسكنني مثلما سكن لؤي حمزة عباس؟
اترك تعليقاً