افتتاحية جريدة الحقيقة
أنا وكريم العراقي ..
55 عاماً على قيد الصداقة والجمال
فالح حسون الدراجي
لا شك أنّ لي – مثل غيري – علاقات صداقة ورفقة وزمالة واسعة، تكونت خلال مسيرة حياتي الطويلة والعريضة، وقد نسج بعض هذه العلاقات بحكم الظروف المعيشية والحياتية – والزمكانية – وبعضه الآخر تشكل بحكم التقارب في الأفكار والعقائد السياسية، وثمة الكثير من علاقاتي نتج بسبب التقاء أمزجتنا، أو تقارب مشاعرنا، أو ربما نتج بسبب توحّد الهوايات بيني وبين الكثير من الأشخاص الذين صاروا فيما بعد أصدقاء مميزين عندي.
وعلى هذا الأساس، فإن لي صداقات وعلاقات مع المئات، أو ربما الآلاف من الأحبة، وهي حتماً علاقات طيبة، يختزن كثيرها، دفئاً ومودةً، وعمقاً أخوياً تضيع فيه كل الخلافات، والتوترات الناتجة عن قسوة الحياة، وسوء الفهم، وتدخل (الطرف الثالث)!
لذلك، فإني أجزم أن (صحبتنا) الجماعية الطيبة، ومحبة بعضنا للآخر، لا يمكن إنكارها قطعاً، فأنا وأصدقائي نشعر بجمال هذه الصحبة، بل ونتذوق حلوها على مدى هذه السنين الطويلة، ونلمس نقاء أخوَّتنا وصحبتنا، رغم التباعد القهري الذي حصل بيني وبين بعضهم في السنوات الثلاثين الأخيرة.
وهنا يجب الاعتراف، أن ثمة علاقات – وهي قليلة جداً جداً عندي – اعتراها الوهن والضعف بل والقطيعة – للأسف الشديد – بسبب الغيرة، أو الحسد، أو الحساسية المفرطة، أو دخول (الطرف الثالث) على خط علاقتنا، فأفسدها، وهذه الحالات في مسيرتي قليلة جداً جداً، بحيث تُعدّ على عدد الأصابع، لذلك قطعت خيوطها مبكراً، وحررت نفسي منها، وأبعدت قلبي عن وجع علاقات قد ترفع الضغط عندي، (وتجلط) بقية العلاقات الصحيحة !
لقد تحدثت لكم بفخر عن علاقتي مع الكوكبة الرائعة من الأصدقاء والرفاق والزملاء خلال عقود مختلفة ومتناثرة من حياتي، لكنّ ثمة صديقاً وزميلاً ورفيقاً وأخاً ظل بصحبته ثابتاً ووفياً وباهراً، رغم كل منعطفات وصعوبات الطريق الطويل جداً – وغير المعَبّد أيضاً – ..
وبنفس درجة وفائه للصحبة، وثباته على مبادئ الصداقة، وقيم الأخوة، بقيتُ أنا معه وفياً وثابتاً، لم تزحزحني الظروف عن مودته قيد أنملة، ولم تبعدني عن التواصل معه طول المسافات، بل ولا حتى القارات التي صارت بيننا، كما لم تبعده عني جميع الخلافات والإختلافات في وجهات النظر إن وجدت !.. إنه صديقي الشاعر الجميل كريم العراقي ..
علاقتي مع كريم العراقي بدأت قبل 55 عاماً !
نعم 55 عاماً، أي منذ طلع صبانا وفتوتنا الأولى .. ومذ أن كنا طلاباً في الصف الثاني متوسط، وتحديداً في متوسطة المصطفى، ومن ثم ثانوية قتيبة في مدينة الثورة – مدينة الصدر حالياً – أما كيف تشكلت هذه الصحبة بين الطالب الهادئ الخلوق، الناحل، المجتهد، كريم عودة لعيبي، الميّال للعزلة والصمت، والذي حمل لقب (غاندي) آنذاك، وبين الطالب فالح حسون نوري، المشاكس، والرياضي، والصاخب، والميّال للاختلاط، والعلاقات مع الجنس الآخر؟!
طالبان في صف دراسي واحد، لكنهما كانا بمواصفات، وهوايات وعادات مختلفة، بل ومتباينة أيضاً، فكيف التقيا، وتصاحبا، ومن جمع بينهما، وكيف حافظا على علاقة تجاوز عمرها نصف قرن من الزمن القاسي، الزمن الذي يفرِّق لفرط قسوته، بين الأخ وأخيه، و( يخشِّن)، لصلافته، قلب الابن على أبيه.. فكيف ظل قلبا فالح وكريم صافيين، وودودين، ووفيين لبعضهما كل هذا الزمن الطويل، وكيف حافظا على مودتهما، وأريج عطر صحبتهما الزكي، دون ان يستجيبا لنداءات الفرقة والقطيعة التي حرض عليها، وأطلقها الكثيرون من (الطرف الثالث)، وكيف نجحا – معاً – بإفشال جميع المحاولات بل والدسائس، والمؤامرات، التي كانت تحاك سراً وعلناً، من أجل هدم هذا البناء السامي من الصداقة والزمالة والرفقة والجمال؟
وقد أفاجئ الجميع إذا قلت، إن تعارفي الحقيقي مع الطالب كريم عودة لعيبي – الذي سيصبح شاعراً كبيراً يحمل اسم كريم العراقي – قد بدأ من موقف غير طبيعي، حيث أذكر، ويذكرها كريم أيضاً أمام الأصدقاء في أغلب لقاءاتنا – إن مكتبة مدرستنا العام 1967 كانت تضم المئات أو الآلآف من الكتب الأدبية والعلمية والإجتماعية والسياسية الفاخرة – قبل أن يأتي البعثيون للسلطة، ويملؤونها بكتبهم الفطيرة، من مؤلفات ميشيل عفلق الساذجة والبائسة الى مؤلفات المفكر الكبير طه الجزراوي – !
وكنت كما أذكر قد استعرت كتاب (عودة الروح) لتوفيق الحكيم ، وكان يحق للطالب استعارة الكتاب لمدة ثلاثة أيام فقط، ويحرم الطالب من حق الإستعارة مرة ثانية إذا لم يُسلّم الكتاب في الموعد المقرر، وقد كان حظ كريم العاثر أن يكون الكتاب الذي يحتاجه كريم عندي عندي، وأنا طالب مشاكس لا ألتزم، ولا أعترف بمواعيد تسليم كتاب، أو غيره، فقد كنت كابتن فريق المدرسة، وأفضل لاعب فيها، وكان مدرس الرياضة واسطتي، وشفيعي في أية مشكلة تحدث لي مع الإدارة.
المهم، أن كريم انتظر أسبوعاً وليس ثلاثة أيام، وكلما راجع أمين المكتبة، أجابه بالجواب نفسه: الكتاب لم يزل في الاستعارة ..!
ولأن كريم كان بحاجة ماسّة لهذا الكتاب، فقد طلب من أمين المكتبة بعد أسبوعين أو ثلاثة، أن يكشف عن اسم الطالب ( المدلل ) الذي استعار هذا الكتاب ولم يُعده لثلاثة أسابيع وليس ثلاثة أيام.. فأعطاه اسمي.. وبعد السؤال عن عنوان بيتي، جاءني كريم عصراً، وهو يسألني بخجله وأدبه المعروف : ( خويه كتاب عودة الروح عندك) ؟
قلت له: نعم .. هل تريده ؟
قال: أكون ممنون لك !!
أعطيته الكتاب.. وبدأت العلاقة منذ تلك العصرية من العام 1966 حتى هذه العصرية من العام 2021، دون أن تتوقف علاقتنا الجميلة (عصرية) واحدة !
55 عاماً من الصداقة والشعر والسياسة والمحبة والجمال ، قضيتها مع أخي كريم العراقي دون افتراق – غير افتراق المكان – وهو برأيي عمر طويل، وطريقه صعب جداً، صار فيه من الدمع والضحك الكثير، وحققنا فيه الفوز والخسارة مرات ومرات، ولاقينا فيه النجاح والخيبة، والعثرات بل والسقوط على الأرض مرات عدة، لكن الجميل في الأمر ان بعد كل عثرة وسقوط ننهض معاً، ونحن أقوى. فقد سرنا في ميدان الشعر معاً – وإن كان كريم قد سبقني في الشعر – كما ناضلنا في صفوف الحزب الشيوعي العظيم معاً، حتى اختلافاتنا مع البعض منه كانت معاً دون أن نتفق.
لم تكن صداقتي مع كريم وحده، إنما كانت صداقة وأخوة عائلية أيضاً، فصار أخوته، بمثابة أخوتي، وأمي كأنها أمه، ومن فَرطِ هذا الإحساس النبيل، كان كريم يتناول الغداء في بيتنا مع أمي في صحن واحد إن لم يجدني في البيت، وكان شقيقي الشهيد (أبو سلام) يحب كريم جداً، ربما أكثر مني، حتى أقرباؤه وأقربائي كانوا قريبين من بعضهم، بسبب متانة علاقتنا بهم ..
ولعل من الصدف العجيبة، أني كنت أرقد في أحد مستشفيات دبي، وكان كريم يرقد في الوقت ذاته بمستشفى قريب جداً من المستشفى الذي أرقد فيه، فكانت قلوبنا تلتقي رغم عدم قدرتنا على اللقاء وجهاً لوجه .. وكان يشجعني على الصمود بوجه مهلكة (كورونا) التي كادت تقطف حياتي، وكنت أشجعه على الصمود بوجه (السرطان الخبيث) الذي كاد يحرمنا من جمال أبي علي.. 55 عاماً .. ولم نزل أنا وكريم أصدقاء .. هل ثمة شاعران غيرنا – في هذا الزمن الأغبر – مازالا على قيد الصداقة والجمال؟!.
اترك تعليقاً