ثقافة الفساد
كريم عبدالله هاشم
حين أصبحنا نستمريء (( لقمة الحرام )) ويطيب لنا الحصول عليها بأية وسيلة ، بل ونسعى لذلك بما يتيسر لدينا من أساليب وحجج ، أصبحت تسود وتتجذر لدينا ثقافة الفساد .
وقد تمثلت هذه الثقافة في سلوكياتنا اليومية ومناحينا الحياتية وقد ولدت لدينا شعارات غريبة ولافتات عجيبة لتغطية وتبرير سلوكياتها . فقد برزت وأصبحت متفشية في جميع أوساطنا وشرائحنا الأجتماعية ، وفي جميع تفصيلاتنا وتشكيلاتنا الحياتية المدنية والرسمية – أقول انها موجودة كثيرا جدا ولاأقصد التعميم – وتتخذ أدوارا وفعاليات كثيرة ، وتشكل عوامل الهام وانجراف صغيرة كانت أم كبيرة بحسب موقعها ومكانها وبمقدار تأثيرها .
أبسط ماتظهر فيه هذه الثقافة في وسطنا الشعبي في سلوكيات فردية أو سلوكيات جماعية ، أو في تصريحات أو متبنيات لتبرير وتغطية وتوفير الحجة لحالة الأنحطاط هذه ـ كلها تتوافق وتنسجم مع تقولاتنا الشعبية التي لاتصلح حتى لتكون أمثالا : (( الشاطر يخلي بالسلة ركي )) و (( اليكدر يجيب نقش )) وغيرها من السذاجات التي تعكس جزء من بناء وجزء من منحى ثقافي تربوي فاسد أصبح من الممكن تبنيه والبناء عليه في ظل الفوضى العارمة في كل شيء وفي ظل تصارع واختلاف التوجهات والغايات والمآرب ، واختلاف وتقاطع الرؤى وتناحر واختلاف وتقاطع البنية الأجتماعية .
ان هذه الثقافة هي وليدة الفوضى ووليدة التردي الذي يحصل في حال الشعوب ، وهي نتيجة حتمية من نتائج ضياعنا ومحو المكونات والمغذيات الصحيحة في تربيتنا ، وانعدام ترسيخ الوجه الصحيح – المعافى – لعقائدنا ومعتقداتنا التي جرى تحريفها لأجل المنافع الفردية أو الجماعية الضيقة .
ثقافة الفساد هي النتاج الحقيقي الأكثر فعالية والأشد ضررا لسلسلة ثقافات تلقيناها ونحن نتدحرج قرونا من الزمن بين أقدام وفي خطوات ونزوات وأطماع الملوك
والسلاطين وولاة الأمور والحكومات والقيادات الظالمة التي كانت أجيالنا المتعاقبة ترزح تحتها ، حيث عرضتنا هذه الحكومات ووظفتنا لأغراض خدمتها وتتويج عروشها المنحرفة ، وهي لم تراعي فينا واجب الراعي والرعية الا بما يتلائم مع غاياتها ، فخلقت لدينا مبررات الحاجة والحرمان والتعطش للصيرورة المظهرية بأية طريقة وأية وسيلة .
ثقافة الفساد هي المؤشر الواضح لعدم الأنتماء وعدم الولاء – عدم الأكتراث – التمرد – اسقاط القيم والمثل التربوية والأخلاقية سواء بالفعل الواضح والمفهوم أو الأسقاط بالأفعال غير المباشرة بأساليب مختلفة وطرق متفرقة تتسع بسعة مفهوم الفساد وتتعدد بتعدد جوانب كل الأشياء المحيطة بنا ، ولعل الأفساد المهني والوظيفي والأفساد بالحقوق والألتزامات والواجبات وجه من وجوهها المتعددة .
تتمظهر هذه الثقافة بأوجه عديدة من النتائج والحصائل والسلوكيات . وينتج من جراءها خراب غير محدود يتسع الى كل شيء ، وينتج منها تفاوت وهضم واجحاف وتغييب للأدوار الحقيقية الصحيحة وبوادر ونوايا الأفعال السليمة . فلو أمعنا النظر في البلاد التي تنتعش وتتفعل فيها هذه الثقافة وتجد المجال والمتسع لممارستها فأننا سنرى ونواجه حالات واضحة عديدة لامجال لحصرها : فكم من مجد مثابر وكم من متعلم مختص وكم من صاحب تجربة وخبرة وكم من ذي شأن وأهمية في أمر ما ، نجدهم ضائعين بين الركام ويتصدرهم أو يتسيد عليهم أو يقودهم فاشل أو منافق أو عديم فائدة أو كثير أذى أو قميء توفرت له الوسيلة والأداة التي مكنته من الوصول الى هذه النقطة ووفر لنفسه الغطاء والبرقع الملمع ومجموعة الشعارات والأعراف واللوائح التي يختفي وراءها . وكم من محق وصاحب أحقية مادية أو معنوية أو أدبية غارق ومضطرب في اللجة والطوفان وهويحاول اثبات شأنه واظهار أمره واحقاق حقه كما يجب لكن بدون فائدة وقد ضاعت كل حقوقه وكل أهدافه وتفتت في لجة الفوضى وفي ركام السباق بين الصحيح وغير الصحيح وخاب كل مسعاه .
كم من وجوه ومعاني الخراب والتردي والباطل نراها تطفو وتسود على سطح الحياة ، وكم من وجوه ومعاني النهوض والفضيلة والبناء نراها تكابد وتتمرغ في الوحل وتندثر .
الفساد والأفساد ليس بالموضوع الجديد ، فتاريخ الشعوب غارق في الأفعال الفاسدة أو المنحرفة ، وقد دفعت الشعوب أثمانا لاتقدر من جراء ذلك . ولكن الكثير من الأمم والشعوب تمكنت من مكافحة جذوره ودفن بوادره واعتبرت ان كل مايظهر من تصرفات أو أفعال في هذا الأطار فعلا شائنا – معيبا – منافيا – للعرف العام
والأخلاقيات العامة ، واتخذت التدابير والأجراءات القانونية والتربوية والتوجيهية وتنشيط التغذية الفكرية السليمة لمحاربة ذلك بكل حزم وجدية وبكل الوسائل المتاحة لها ، ولذلك أصبح التشخيص لديها ممكنا والمعالجة عندها سهلة ويسيرة .
أما عندنا :
فقد ساهمت الفوضى التي تعرضنا لها ، ونتائج وافرازات هذه الفوضى الى تكوين ثقافة الفساد التي تتبلور وتنتج من ثقافة المكاسب والغايات والأطماع الضيقة .
ففي ظل ماعانيناه من سلسلة أنظمة حكم متعاقبة على مدى قرون من التاريخ ـ وفي ظل ماجرته هذه الأنظمة من تبعات تربوية وسلوكية وأخلاقية وضغوط متعددة الأتجاهات في تفاصيلنا الحياتية والمعاشية ، تعرضنا الى هدم ومحو وتمزيق في أبسط مكوناتنا وثوابتنا التربوية والفكرية حيث تحول النفع والأنتفاع بأية طريقة كانت الى غاية ووسيلة وطريقة تفكير وسلوك غالب ، وتحول الى ثقافة في الصياغة والتخطيط والتفكير والطرح والرسم والأداء .
أصبحت ثقافة ،
وأصبحت نتائجها ومغرياتها تطغى على المشهد العام ، وتوفر مغريات متعددة لمزيد من الأنجراف .
علينا أن نستفيد من تجارب الأمم والشعوب ونحذو حذوها اذا أردنا المعالجة والتصحيح والتقويم .
اترك تعليقاً