كان من حسن حظ القصيدة إنها ليست سريالية
كوخ الغابة للشاعر الأميركي راسل إدسن تستفيد (كوخ الغابة) من مناخات السريالية غير أنها ليست قصيدة سريالية. إنها قصيدة مبنية على حكاية متقنة الصنع، وهذا بعض ما ينأى بها عن السريالية التي تسلم نصوصها عادةً لعفوية واعتباطية يضيع معهما أي أثر للاتقان في الصنع وفي الحكاية نفسها. الشاعر هو راسل إدسُن، يفضّل كثيرون إسباغ صفة (عراب قصيدة النثر الأميركية)، وقصيدة النثر لدى الأميركان تماست مع قصيدة النثر الفرنسية وافترقت عنها بنموذج أميركي.. وهذا النص هو تعبير عن هذا التفاعل والافتراق ليس مع قصيدة النثر الفرنسية حصراً وإنما مع التجربة السريالية أيضاً. غرائبية موضوع الحكاية وفانتازيا عالمها لا تكفيان وحدهما لتجعلا من قصيدة راسل إدسُن نصاً سريالياً. وكان من حسن حظ النص أنه لم ينحرف تماماً نحو السريالية التي يفضلها إدسن روحاً أكثر مما هي منهجاً وقوالب. يلتزم النص كثيراً بضوابط أخرى غير ضوابط السريالية؛إنه يلتزم بجانب من تحديدات قصيدة النثر، في الأقل كما رسّخها الفرنسيون. إنه يقيم شعريته على الإفادة من تقنية السرد، والسرد الشعري تحديداً؛ يخلق حكايةً بمفارقات ذكية ينشئها الخيال،و (يشتط) بها، ويشبعها بطرافة سوداء. قد تكتفي هذه الحكاية بغرائبية عالمها و بما يغنيها عن أي محاولة لإعطائها معنىً آخر (تأويلاً) غير معناها المباشر، لكن (كوخ الغابة) له طاقة إيحاء بالكثير من الدلالات التي يتحراها نمط من القراء شديدي الاهتمام باستنطاق النصوص والبحث في ثناياها عن معادلات دلالية لها في الواقع وفي سواه. بعض القراء يبحث في نصوص الشعر عن صورٍ لما يحياه ويفكر فيه، إنه ينتظر من النص أن يكافئ قراءته بإظهار واحدة من هذه الصور التي يريد. لكن في الشعر هنا كمسؤولية مباشرة على المؤلف الشاعر، أمام نفسه في الأقل، يترتب عليها أن يكون الشاعر مقنعاً أولاً وقبل أي شيء بقيمة المعنى الشعري المباشر للنص وبشعرية السرد إذا ما اعتمد السرد وتقنيات الحكاية وسيلة للتعبير. النجاح في أن يعطي الشاعر معنى شعرياً مباشراً ومقنعاً هو شرط أول، وهو مفتاح أساس بين مفاتيح كثيرة لما يمكن أن ينتجه ذلك المعنى من دلالات وتأويلات تهمّ القارئ أكثر مما تخصّ الشاعر نفسه. في (كوخ الغابة) ليس ما يضيق هو البيت/ الكوخ حيث يقيم المرء، في كثير من الأحيان تضيق بنا البيوت والغرف التي نقيم فيها فنفرّ منها إلى رحابة الخارج، لكن في قصيدة النثر هذه تضيق إرادة المرء نفسه حيث ينشئ كوخه في غابة، تفشل هذه الإرادة في صنع الكوخ المناسب فيما جنب ذلك المرء وليس بعيدا عنه ولاعن كوخه تواصل حشرةٌ حريةَ جناحيها بأزيزهما / غنائهما. كوخ إدسُن، بمقاييسه وأبعاده، يبدو مناسبا لإقامة الحشرة لا الإنسان.. لكن الحشرة تظل باستمتاعها وحريتها،فيما يتمدد المرء محتضنا كوخه الذي اخفق فيه، ليس له من حلمه وإرادته سوى احتضان الفكرة القاصرة. قصيدة إدسُن تفصح، من حيث تقنيتها وموضوعها،عن إعجاب بهنري ميشو، وهو إعجاب مزدوج تتبدى من خلاله عوالم ميشو؛ الإفادة من السريالية وانفلات المخيلة بها ولكن بالتقيد بضوابط قصيدة النثر. هذه القصيدة واحدة من الأطياف الشعرية عما يمكن أن يفعله توظيف الغرائبية والفانتازيا في الشعر، وهذا التوظيف هو ما ظلّ يطبع الكثير من أعمال ميشو.
كوخُ الغابة قصيدة نثر: راسل إدسُن ترجمة: أحمد شافعي بنى لنفسه كوخًا في الغابة. وكانت بالقرب منه حشرةٌ تحكُّ جناحيها في أزيزٍ له وقع الغناء. ولكنَّ كوخه ـفي غياب المقاييس، والإدراك السليم للأبعادـ جاء شديدَ الصغر،وها هو يدرك ذلك إذ يكتشف أن يدَه فقط هي التي يمكن أن تمرمن الباب. يجرِّب أن يرتقي السلالمَ نحو الطابق الثاني ولو بالأصابع، لكن ذراعه ينحشر في المدخل. يتساءل كيف سيطهو العشاء. صحيحٌ أن أصابعه قد تدخل إلى المطبخ من الشباك، لكنّ الموقدَ أصغرُ من أن يطهو طعامًا يكفيه، والأواني جميعاً في حجم أغطية الزجاجات. عليه إذن أن يقضي الليل في العراء، وإن كان بانتظاره داخل الكوخ سريرٌ صغيرٌ وأغطية مطوية. يتمدد، محتضنًا الكوخ، مصغيًا إلى حشرة تحك جناحيها في أزيزٍ له وقع الغناء.
اترك تعليقاً