لماذا خضع عبد المهدي لقرار العامري بعدم ترشيح الاعرجي، رغم ثقته وقناعته بأداء السيد قاسم ؟
حين استوزر السيد قاسم الأعرجي لوزارة الداخلية كانت الحرب على داعش لا تزال في بواكيرها، وكانت قطعات الداخلية لم تأخذ حيزها في المعركة بالشكل الذي يتلائم مع مقداراتها وقدراتها الأمنية، وعددها الهائل من الرجال المدربين الذين تنفق الدولة عليهم المليارات. وحين تولى الاعرجي المنصب لم يكن بيع المناصب الأمنية امراً مخفياً، ولم تكن اللوبيات المعششة تخشى ان تعلن عن نفسها بقوة ووضوح.
و حين تولى الاعرجي المسؤولية لم يكن التعامل مع الداخلية من قبل الناس، الا مع جهاز بوليسي بحت، ولم تكن المؤسسة قد أخذت شكلاً امنياً – خدمياً كما هو الدور المنوط بمثل هذه المؤسسات. كل هذه التركة الموجعة وغيرها كانت تنتظر الأعرجي، وكان أكثر المتفائلين يرى أن الرجل قد يتمكن أن يوقف انحدار هذه المؤسسة على أبعد تقدير. اما النهوض بها، فذلك اقرب للحلم منه للواقع، كيف سيدير هذه المؤسسة التي اهترأت بفعل بناءات وسياسات خاطئة، وكيف يمكن أن يشكل من هذه الخيوط المتقطعة، نسيجاً منتجاً، بحيث لم يشأ الكثيرون حتى الداعمون لترشيحه، الأعلان عن موقفهم الداعم بقوة، خشيةً من الأخفاق، لكن ما الذي حدث حتى صار موضوع اعادة توزير الاعرجي لولاية ثانية مطلباً شعبياً، على الرغم من تجاوز رئيس الوزراء عادل عبد المهدي لكل هذه الاصوات الشعبية الواسعة، وما الذي تغير لتنقلب الموازين ويصير ترشيحه لهذه المهمة مطلوباً بكل هذا القدر الكبير ؟
الذي حدث برأينا، ورأي الجميع، أن الاعرجي تمكن بفترة قياسية من لم شتات الداخلية، وايقاف التداخل الرهيب والفج بين ما هو سياسي وما هو أمني، فالرجل عامل المؤسسة، على أنها مؤسسة أمنية – خدمية بحتة، ولم يسمح أن تدار بعقلية سياسية كما كانت تدار من قبل، كما قلص الى حد كبير نفوذ كارتلات الاحزاب والقوى الخفية التي كانت تعمل، لا كرهًا بهذه القوى أو تقاطعاً معها، لكنها رؤية موضوعية ووطنية ومهنية لمؤسسة خطيرة تمس حياة الناس، وأمنهم ومستقبلهم، فأن سُمح لطرف ما أن يتدخل، فما معنى أن لا يسمح للطرف الأخر أن يتدخل هو الآخر، لتصبح الوزارة أسيرة لعبة سياسية لها أول ولا أخر لها.
لقد رفض الرجل السير على منهج أن تدار الأمور من الأسفل، بينما يكتفي رأس الهرم بالأشراف فقط، لذلك قلب المعادلة، فأصبح هو في الأمام يقود، والوزارة تقاد منه، لا أن يقاد من الوزارة هو، وبهذا أنهى مسألة التشتت الرهيب في اجهزة الداخلية عبر آليات وخطط أتت اكلها بسرعة، كما ان الاعرجي وحد خطوط الوزارة وادام الأتصال والتنسيق بين جميع وحداتها القتالية، فأنجز لها شخصية قتالية واضحة، وحدد لها مع قياداة العمليات المشتركة محاور، ونقاط اشتباكها، ومن ثم وضع لها قواعد اشتباك واضحة وصارمة، وكانت الوزارة تعمل كفريق حرب واحد بقيادة شخص واحد، لينهي ذلك التباين والاختلاف بين مؤسساتها التي يفترض ان تكون واحدة وموحدة.
كما فكك الاعرجي لغز الوكالات المتنافرة، واعاد تجميع وحدة القيادة المركزية، وقضى على حالة الاستفراد التي كانت سائدة في بعض المفاصل، وانتهز المعركة كفرصة لاعادة الاختبار، فعزل من لم يثبت كفاءة التخطيط والقيادة والاشتباك وقدم من ثبت له العكس، وهكذا كنا نرى قائداً استثنائياً على مفاصل وزارة أمنية خطيرة.
في عرض التفاصيل، وعن معركة التحرير مع داعش، لايمكن أن تكتب بهذه العجالة، لكن الأعرجي عاد من التجربة بحصيلتين مهمتين للغاية الأولى: أنجاز التحرير وطرد فلول داعش والقضاء على خلاياها، ومن ثم اعادة الربط وتوحيد القيادة وجعل قوات الداخلية يداً ضاربة يمكن الاتكال عليها في تنفيذ واجبات حماية الوطن والمواطن.
وفي هذه العجالة، سجل الجميع اعجاباً بهذه القيادة الشجاعة والعارفة فيما بقيت الأعين محبوسة على الطرف الأخر، فالداخلية ليست قوات تحارب فحسب، انما تعني: أمن داخلي، مكافحة جريمة، ضبط اجتماعي، أدارة ملفات المرور، والتنظيم الاسري والعمل الاجتماعي والتربوي والثقافي والفني و… الخ من اعمال الداخلية التي لا تنتهي، فكيف أثبت الرجل نجاحات أخرى في هذا الميدان؟
لن نطيل في الملفات لكن يكفينا أن نشير الى أن الاعرجي استطاع أن ينجز مالم ينجزه من سبقوه على مدار 13 عاماً، حيث انهى ظاهرة السيارة السائبة التي لا لوحات تسجيل عليها، والتي كانت سبباً اساسياً في تدمير الأمن في العراق، فأنهى هذا الملف الشائك بأحسن، وأروع ما يكون، مع العلم أن ثمة مافيات وعصابات ما انزل الله بها من سلطان كانت كامنة وراء هذا الملف الحساس، فلك ان تتصور عزيزي القارئ كيف يدار مثل هذا الملف وكيف نجح الرجل في تفكيك الدولة العميقة التي كانت تعتاش على مصائب وآلالام ودماء كل العراقيين بلا استثناء .
كما انهى الوزير الاعرجي بذات الهمة ملف البطاقة الوطنية الذي تسارعت خطواته محققاً طفرات كبيرة في ملف شائك ومعقد كهذا. ولعل العاملون في ملفات تنظيم الاسرة والتسجيل الحكومي يعون ما نقول بشكل أكبر، فالعراقيون الآن يحملون رقماً وطنياً موحداً، ويحملون بطاقة وطنية معتبرة، وذات كفاءة في الاثبات يصعب تزويرها أو التلاعب بها، بل أن الارقام التي تترى تشير الى أن الوزارة اذا بقيت بنفس وتيرة العمل سيطوى الملف عما قريب وبهمة ومتابعة من الاعرجي ذاته.
في ذات السياق، فأن الرجل نزع عنه أردية العمل الحزبي السابق وتحلى بدور رجل الدولة المترفع عن الانتقام والثأر وعامل العراقيين على حد سواء، ولم يكن لعدائه الطويل والمرير مع البعث الاجرامي أي اثر في التعامل مع أسر عوائل البعثيين الذين كانوا يريدون الحصول على وثائق ثبوتية لهم ولاطفالهم في دول المهجر، بحيث عاملهم مثل أي عراقيين آخرين يسمح لهم أن يمارسوا حقوقهم الدستورية والقانونية دون أي حكم طائفي أو سياسي أو أي اعتبار مسبق، واضعاً بذلك مسطرة المواطنة حداً بين الجميع، فأدهش هذا الأمر جميع المتابعين الذين ظنوا أن الرجل سينطلق من عقد ماضية أو طائفية او سياسية في حال تسلمه الملف.
وعليه فقد كانت ادارة الأعرجي حافلة بالانجازات، وكانت ادارته ميدانية مطلعة ومقتدرة، ولم يركن فيها الى الدعة والخمول، بل أننا رأيناه قد انجز مهامه على جميع الأصعدة، تاركاً بصماته واضحة في كل الميادين التي كانت تقع ضمن مسؤولياته الوظيفية كرجل دولة مسؤول، ولم يترك السياسة أو الحزبية تتسلل الى العمل فتفسده،
وهذا برأينا ما دفع الحاج هادي العامري الى عدم ترشيحه للوزارة مرة اخرى، فالاعرجي لم ينحز، أو يفكر بالحزب، او الكتلة التي رشحته مثل الوزراء الاخرين المنحازين لكتلهم واحزابهم وطوائفهم على حساب الحقوق والاستحقاقات الوطنية والمهنية ! ومما لا شك فيه فقد سجل الاعرجي نجاحات كبيرة لفتت انظار المجتمع اليها، وحظيت باشادات واسعة من اطياف مختلفة، ولم يكن يتصنع ذلك مطلقاً، فقد كان الرجل يمارس دوره المنوط به كرجل دولة لا غير . لم يفته أيضاً ان يرسي أسس متينة لشكل العلاقة بين رجل الأمن والمجتمع، فعمل جاهداً على محو الصورة النمطية عن رجل الأمن المتسلط على رقاب الناس، الذي يسلبهم حقوقهم ويخشونه جداً. لقد كنا نود ان نقوم بجردة حساب رقمية لمسيرة الاعرجي في وزارة الداخلية الا أن هذه العجالة لا تسع، لذا فأننا نؤكد على أن ما انجز خلال العامين كان كبيراً جداً، وكنا ولا نزال نأمل ان يتجاوز رئيس الوزراء السيد عبد المهدي عقدة المحاصصة والاحكام المسبقة، وان يعيد الأمور للسيد الاعرجي، الذي سيراكم كل هذه الانجازات ويكمل البناءات، والا فأن المطلوب -وهو اضعف الإيمان- ان يبحث عن رجل بكفاءة وقدرة الاعرجي، وان يواصل هذه المسيرة الناجحة، ويكمل بناء مشروعه الوطني، لا أن يهد ما بني بأي دافع ولأي سبب كان. وقبل ذلك نود اعادة سؤالنا الأول:
لماذا استجاب عبد المهدي لرغبة العامري، وخضع لقراره في عدم اعادة ترشيح الاعرجي، رغم ثقته وقناعته، بل واعجابه بأداء وكفاءة الرجل في ادارة وزارة الداخلية؟!
اترك تعليقاً